قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
يَنْهى اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ عَن الظَّنِّ السَّيِّء بإخوانِهِمْ المُؤْمِنينَ ، لأنَّ ظَنَّ المُؤْمِنِ السَّوْءَ إِثمٌ ، لأنَّ اللهَ نَهَى عَنْ فِعْلِهِ ، فَإذا فَعَلَهُ فَهُوَ آثمٌ .
( وَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فإِنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ . لاَ تَجَسُّوَا ، وَلاَ تَحَسَّسُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً " ) ( البَخَارِيُّ وَمُسْلمٌ )
ثُمَّ نَهَى اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَنْ أن يَتَجَسَّسَ بَعُضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ أنْ يَتَتَبَّعَ بَعْضُهُم عَوْرَاتِ بَعْضٍ ، وَعَنْ أنْ يَبْحَث الوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ سَرَائِرِ أخِيهِ ، وَهُوَ يَبْتَغِي بِذِلَكَ فَضْحَهُ ، وَكَشْفَ عُيُوبِهِ .
ثُمَّ نَهَاهم عَنْ أنْ يَغْتَابَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ، وَعَنْ أنْ يَذْكُرَ أحَدُهُمْ أخَاهُ بما يَكْرَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَخَلْقِهِ وَخُلُقِهِ وَأهلِهِ وَمَالِهِ وَزَوْجِهِ وَوَلدِهِ . . ( كَما عَرَّفَ رَسُولُ اللهِ الاغِتْيَابَ )
( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بلِسَانِهِ وَلَم يَدْخُلِ الإِيمانُ قَلْبَهُ : لاَ تَغْتَابُوا المُسْلِمينَ ، وَلاَ تَتبَّعُوا عَوْرَاتِهِم فإِنَّ مَنِ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ يَتَتَبَّعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ في عُقْرِ بَيْتِهِ " ) .
وَشَبَّه تَعَالى اغْتِيَابَ المُؤْمِنِ لأخيِهِ المؤمِنِ بأكْلِهِ لَحمَهُ بَعْدَ موتِهِ ، وَقَالَ لِلمُؤمِنِينَ إنَّهم إذا كَانَ أَحَدُهُمْ يَكْرَهُ أكْلَ لَحْمِ أخِيهِ بَعْدَ مَوتِهِ ، وَإذا كَانَتْ نَفْسُهُ تَعَافُ ذَلِكَ فَعَلَيهِمْ أنْ يَكْرَهُوا أنْ يَغْتَابُوهُ في حَيَاتِهِ .
وَلِلْغِيبَةِ ثَلاثَةُ وُجُوهٍ :
الغِيبَةُ - وَهِيَ أنْ يَقُولَ الإِنسَانُ في أخيهِ مَا هُوَ فيه مِمَّا يَكْرَهُهُ .
الإٍفْكُ - أنْ يَقُولَ فِيهِ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ .
البُهْتَانُ - أنْ يَقُولُ فيهِ مَا لَيسَ فيهِ ممّا يَكْرَهُهُ .
ثُمَ حَثَّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلى تَقْوى اللهِ ، وَعَلَى تَرْكِ الغِيبَةِ ، وَمُرَاقَبِتِهِ تَعَالى في السِّرِّ والعَلنِ ، فإذا تَابُوا وانتَهَوا واستَغْفَروا رَبَّهم عَمّا فَرَطَ مِنْهُم ، اسْتَجَابَ لَهُم رَبُّهُمْ ، فَتَابَ عَلَيِهمْ ، لأنَّه تَعَالى كَثيرُ التَّوْبِ عَلَى عِبَادِهِ ، كَثِيرُ الرَّحمةِ بِهِمْ .
فأما هذه الآية فتقيم سياجاً آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم ، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم ، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم ، في أسلوب مؤثر عجيب . .
وتبدأ - على نسق السورة - بذلك النداء الحبيب : { يا أيها الذين آمنوا } . . ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن ، فلا يتركوا نفوسهم نهباً لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك . وتعلل هذا الأمر : { إن بعض الظن إثم } . وما دام النهي منصباً على أكثر الظن ، والقاعدة أن بعض الظن إثم ، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيِّئ أصلاً ، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثماً!
بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيِّئ ، فيقع في الإثم؛ ويدعه نقياً بريئاً من الهواجس والشكوك ، أبيض يكن لإخوانه المودة التي يخدشها ظن السوء؛ والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك ، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع . وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون!
ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب . بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل ، وسياجاً حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف ، فلا يؤخذون بظنه ، ولا يحاكمون بريبة؛ ولا يصبح الظن أساساً لمحاكمتهم . بل لا يصلح أن يكون أساساً للتحقيق معهم ، ولا للتحقيق حولهم . والرسول صلى الله عليه وسلم - يقول : « إذا ظننت فلا تحقق » . ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء ، مصونة حقوقهم ، وحرياتهم ، واعتبارهم . حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه . ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم!
فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا ، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلاً ، وحققه في واقع الحياة ، بعد أن حققه في واقع الضمير؟
ثم يستطرد في ضمانات المجتمع إلى مبدأ آخر يتصل باجتناب الظنون :
{ ولا تجسسوا } ..
والتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن؛ وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات ، والاطلاع على السوءات .
والقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية ، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوآتهم . وتمشياً مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب .
ولكن الأمر أبعد من هذا أثراً . فهو مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي ، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية .
إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور ، ولا أن تمس بحال من الأحوال .
ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم ، آمنين على بيوتهم ، آمنين على أسرارهم ، آمنين على عوراتهم . ولا يوجد مبرر - مهما يكن - لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات . حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس . فالناس على ظواهرهم ، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم . وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم . وليس لأحد أن يظن أو يتوقع ، أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما ، فيتجسس عليهم ليضبطهم! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها ، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة .
قال أبو داود : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب . قال : أتى ابن مسعود ، فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمراً . فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .
وعن مجاهد : لا تجسسوا ، خذوا بما ظهر لكم ، ودعوا ما ستر الله .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن دجين كاتب عقبة . قال : قلت لعقبة : إن لنا جيراناً يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط ، فيأخذونهم . قال : لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم . قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دجين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا . وإني داع لهم الشرط فتأخذهم . فقال له عقبة : ويحك! لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها »
وقال سفيان الثوري ، عن راشد بن سعد ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم يقول : « إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم » فقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - كلمة سمعها معاوية - رضي الله عنه - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفعه الله تعالى بها .
فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي! ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب ، بل صار سياجاً حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم ، فلا تمس من قريب أو بعيد ، تحت أي ذريعة أو ستار .
فأين هذا المدى البعيد؟ وأين هذا الأفق السامق؟ وأين ما يتعاجب به أشد الأمم ديمقراطية وحرية وحفظاً لحقوق الإنسان بعد ألف وأربع مائة عام؟
بعد ذلك يجيء النهي عن الغيبة في تعبير عجيب ، يبدعه القرآن إبداعاً :
{ ولا يغتب بعضكم بعضاً . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً؟ فكرهتموه } . .
لا يغتب بعضكم بعضاً . ثم يعرض مشهداً تتأذى له أشد النفوس كثافة وأقل الأرواح حساسية . مشهد الأخ يأكل لحم أخيه . . ميتاً . . ! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز ، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب!
ثم يعقب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى ، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئاً أن يبادر بالتوبة تطلعاً للرحمة :
{ واتقوا الله إن الله تواب رحيم } . .
ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول إلى سياج حول كرامة الناس ، وإلى أدب عميق في النفوس والقلوب . ويتشدد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متمشياً مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض .
وفي حديث رواه أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قيل : « يا رسول الله ، ما الغيبة؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : » ذكرك أخاك بما يكره « . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال - صلى الله عيه وسلم - : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته » . ورواه الترمذي وصححه .
وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة ، « عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : حسبك من صفية كذا وكذا ( قال عن مسدد تعني قصيرة ) فقال - صلى الله عليه وسلم - : » لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته « . قالت : وحكيت له إنساناً . فقال - صلى الله عليه وسلم - : ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا » .
وروى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم . قلت : من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم » .
ولما اعترف ماعز بالزنا هو والغامدية ، ورجمهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد إقرارهما متطوعين وإلحاحهما عليه في تطهيرهما ، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب! ثم سار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مر بجيفة حمار ، فقال :« أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار » قالا : غفر الله لك يا رسول الله! وهل يؤكل هذا؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : « فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه . والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها » .
وبمثل هذا العلاج الثابت المطرد تطهر المجتمع الإسلامي وارتفع ، وانتهى إلى ما صار إليه : حلماً يمشي على الأرض ، ومثلاً يتحقق في واقع التاريخ .
وبعد هذه النداءات المتكررة للذين آمنوا؛ وأخذهم إلى ذلك الأفق السامي الوضيء من الآداب النفسية والاجتماعية؛ وإقامة تلك السياجات القوية من الضمانات حول كرامتهم وحريتهم وحرماتهم ، وضمان هذا كله بتلك الحساسية التي يثيرها في أرواحهم ، بالتطلع إلى الله وتقواه . .